تغلغت منذ سنوات وتحديدا بعد الحرب الأهلية اللبنانية، ثقافة الموت التي تقصي كل اشكال الحياة والفرح وتحصر اهل الجنوب تحت مسميات الشهادة والقتل والسواد الذي يخيم على الطرقات، وتقليل لا بل منع كل مهرجان او حفل فني بعيدا عن مهرجانات الاحزاب الطائفية ذات الطابع الديني. وصارذلك حكرا على طبقة سياسية تستخدم الطائفة كذريعة للحفاظ عليها من تهديد الآخر الوهمي، وهذا المفهوم ينطبق على باقي المناطق في لبنان التي تهيمن عليها احزاب طائفية أخرى.
لكننا شباب الجنوب نخوض معركة بقاء في مكان اصبح الانتماء اليه مشروطا بأن نكون من ضمن هذه البيئة التي لا تشبه تاريخ الجنوب المليئ بالتنوع الثقافي والسياسي وتحاول قبع ماضي المنطقة وتغيير ملامحه بمنطق جديد ينطوي تحت ثقافة جديدة لا تمت لنا بصلة وعلى نحو ما لقد نجحوا في ذلك!
ثقافة تحاول حصر الجنوب باتساعه وغناه تحت فكر اقصائي، يرفض الآخر واحزاب طائفية تدعي أنها تحمينا وهنا تكمن الخطورة. اذ أن المبالغة بتذكيرنا باننا مهددين وعليهم حمايتنا تهديد بحد ذاته، ففي فن التلاعب بالعقول لا يمكن للفرد ان يستوعب ان من يدعي حمايته يأخذ منه بالمقابل توقيعا يجيز له تحديد مصيره والاخطر من ذلك يبرر له كل افعاله من هذا المنطلق.
لم نكن ندرك ذلك عندما كنا يافعين اذ اننا اقتدنا الى فكرة ان عدونا واحد وخارجي هي اسرائيل، ولم نعي اننا كمواطنين اصبحنا مقيدين ومقصيين عن الحياة السياسية الا بعد حين.
جرب ان يكون لك رأي آخر او ان تعترض او ان تحاول ان تغيير واقع بلدك المزري، هنا في الجنوب سوف تخون او تتهم بالعمالة ويصبح بالامكان ان يحللوا سفك دمك على وسائل التواصل الاجتماعي. ام بالتهديد المباشر وهتك الاعراض والإبزاز النفسي.
وهذا ما حصل في 16\4\2022، فإبان اقتراب موعد الانتخابات النيابية في لبنان في15 أيار 2022 الماضي، كان من المفترض ان تنطلق حملة “معا للتغيير”، في دائرة الجنوب الثانية. اللائحة المعارضة والثائرة على الواقع المستشري في الجنوب. والتي عادت واطلقت حملتها فيما ما بعد من صور نظرا للمضايقات التي تعرضت لها.
وهنا سأستطرد قليلا وأروي ما حدث:
ذهبنا انا ومجموعة من اصدقائي الذين يناضلون في وجه كل الممارسات البوليسية ولكي لا يفقد الجنوب وجهه الحضاري ول لبنان نحلم فيه بعيدا عن الطائفية والمحسوبية والامتيازات والتبعية.
في طريقنا الى حضور اطلاق الحملة التغيرية في بلدة الصرفند جنوب لبنان اي معقل من اصبحوا يرون ان الجنوب ملكية خاصة لهم، اتجهنا من مدينة صور لنشارك بهذا الحدث قاصدين بلدة الصرفند وقاعة الوادي تحديدا حيث سيقام اعلان اللائحة. وقبل ان نصل، بدأت تخبرنا المجموعات التي وصلت قبلنا ان هناك حاجز قد اقيم على المفرق الذي يؤدي الى القاعة حيث المكان المنشود وذلك لعرقلة اعلان الحملة ورفض وجودها في المنطقة وبطبيعة الحال يمكننا ان نخمن تلقائيا انهم عناصر من حركة امل لانها ليست المرة الاولى التي تصادر بها حرياتنا وليست المرة الاولى التي يحاولون فيها ترهيبنا.
تريثنا قليلا قبل ان ننزل الي قاعة الاحتفال لنحاول ان نفهم مدى خطورة الامر لا سيما وقد عرفنا للتو انه تم الاعتداء بالضرب على ال DJ الذي كان اول الواصلين.
لم نشأ ان تكون اروحنا على المحك فلقد تعلمنا من من سبقونا ان من يهدر دمه بهذا الوطن “ما بتروح الا عليه”، خصوصا اذا كانت الضربة موجهة من جبان يخاف على وجوده من ما اقنعوه بانه عدوه وهو على عكس ذلك تماما.
بعد اجراء عدة اتصالات مع مرشحين الحملة، قررنا النزول الى القاعة، ركنا السيارة بعيدا بضع اميال عن المكان تحسبا لامكانية قيامهم بتكسيرالزجاج.
ترجلنا من السيارة بخطى ثابتة، امامنا بضع كيلومترات سنمشيها، وريثما اقتربنا من الحاجز المشكل من عشرات الشباب والاطارات. انهالت علينا كمية كبيرة من الشتائم وهتك الاعراض والكلمات النابية وكأننا غرباء عن المنطقة.
ولكن الاصعب من ذلك هو اننا كنا معرضين للاذى الجسدي لو كان قد زل لساننا استجابة لاستفزازاتهم.
لم نستجب لعنفهم اللفظي الذي لا يمكنك ان تنسى كيف ينخر باذنيك، لكن بدل ان يحسسك بالعجز يطلق في قلبك عزيمة اكبر بالاستمرار.
اكملنا طريقنا نحو القاعة وما لبث ان وصلنا ومع وصول الاخرين بدأت عملية الترهيب تكبر، واصبح مجرد حمل الهاتف لتوثيق بلطجتهم اداة يشرعون من خلالها لانفسهم الهجوم بنية القتل!
نعم، كانوا مدججين بالسلاح والسكاكين وسرعان ما فتحوا النار على المارين الى القاعة، كما والتعرض لهم بالضرب رجالا ونساء وسحب الهواتف منهم وسحلهم بالطرقات.
ولم يكفيهم ذلك اذ انهم اخذو يرشقوننا بالحجارة. عمة حالة من الريبة بين الناس، اصبحنا نفكر اذا كنا سنرجع الى منازلنا سالمين ام لا، اخذت صديقتي تستعيد كلمات امها الاخيرة التي حذرتها من الذهاب للمشاركة “مش رح ترجعي سالمة”.
لا ادري لماذا كل ذلك الحقد الاعمى، لماذا لا يكون هناك منافسة انتخابية حضارية؟ لماذا القمع؟ الا يمكننا ان نتنافس وان ندلي بصوتنا في صندوق الاقتراع دون اللجوء للعنف؟ لكن حقيقة ما يفسر ما حصل هو اننا في الجنوب يمكن ان تسفك دمائنا بكل سهولة فعادة يستعملون مناصريهم ضدنا في عملية منهجية تهدف الى تخوين واتهام كل من يخالفهم الرأي بإتهامه بالعمالة لاسرائيل. واذا اردنا ان نرى الامور بحذافيرها فلا بد لنا ان نرى الموضوع من منطلق نفسي فعندما تنظر في اعين هؤلاء الشباب فإنك لا ترى سوى هيئات مؤدلجة بطريقة تحفز الخوف المتعلق بتروما الاحتلال الصهيوني للجنوب والمأساة التي عاشها الجنوبيون آن ذاك، لذلك فإن استعمال منطق العمالة من قبل احزاب الثنائي الشيعي واتهامنا بها اداة سهلة لتجييش الناس علينا.
وينطوي هذا الخوف من فكرة الحرمان الطويل على الصعيد الخدماتي التي عاشته منطقة الجنوب كما وكل الاطراف التي ضمت فيما بعد الى متصرفية جبل لبنان حيث تم اعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.
وما لك ان سوى ان ترى بالملاحظة ان هذه الممارسات المشبعة بافكار تنم عن خوف بالتهديد او الغاء الوجود، خصوصا انه ليس هناك مفهوم للدولة بشكل فعلي الا ان ينتج عنه محاولات للدفاع عن كينونة انتمائهم الاوحد والذي يربطهم بالطائفة لا بالوطن. وهذا ما يجعل فكرة تقبل الاخر المختلف عصية على فهمهم ومخرجا لرفضهم يترجم بالعنف.
لقد وضعوا الناس بوجه بعضها، فمن لا يسلك الطريق الخاص بهم يصبح خارج عن الملة. وهذا اصعب ما يوجهنا كشباب معارض، اذ انه علينا ان نتعامل مع هذا الواقع بكل يقظة وتفهم، لإن من امامنا هم في النهاية اهلنا الذين لا يمتلكون في جيوبهم فلسا واحدا وجعلتهم الازمة الاقتصادية في لبنان منذ ال 2019، لا بل فساد نوابهم من جهة اخر، اكثرا فقرا وينتظرون الاعاشة الانتخابية من زعيمهم. فكيف لك ان تقنعهم ان معركتنا هي واحدة وان العدو الداخلي هو اخطر علينا من العدو الخارجي، لان قضيتنا بوجه اسرائيل ليست محل نقاش اساسا.
كل ذلك كان يمر برأسي الآن كشريط فإن وسط كل ما حدث استطيع ان ارى الامور بوضوح وان لا انجر الى اي انفعال عاطفي.
اما المرعب حقا كان هشاشة القوى الامنية والجيش والذين وصلوا الى المكان بعد فوات الاوان ولا يمكنهم ضبط هذه المجموعات، التي تبرأت منها قيادة حركة امل فيما بعد ووصفتها بالمجموعات المتفلتة!
ففي طريقنا للعودة بعض السيارات جانب القاعة اضطرت للمغادرة من طريق ترابية، حيث ان القاعة المستضيفة لاعلان الحملة تقع في مكان يسهل محاصرته. كما وان بعض المجموعات التي كانت تريد ان تلتحق بنا لن تستطع ان تصل حتى.
مشينا بمؤازرة الجيش الذي لم يعدنا بأنه يستطيع ان يضمن لنا عدم تعرضنا لاذى محتمل. استطعنا الوصول الى مكان السيارة ولم نسلم من الاهانات التي اطلقت من مئات الواقفين الذين لم يلبثوا ان يكرروا عبارة ” نبيه بري الله”، وكأننا نعبر بين حدود بلدين متخاصمين، وكأنها مشهدية بطولية لهم وانتصارا كاسحا علينا. حيث انها فرصة لدرء عدو لن يترددوا بوصفه بالعميل.
لكن ما جرى بعد هذا الاستحقاق النيابي من خرق بمقعدين في دائرة الجنوب الثالثة لمصلحة لائحة “معا نحو التغيير” أثبت أن هناك مزاج شعبي جديد في الجنوب في معركة اثبات الوجود المعارض للثنائي الذين كانوا دائما يلوحون بعدم وجوده، وان ارتفاع عدد الاصوات للائحة “معا للتغيير” في دائرة الجنوب الثانية مقارنة بعدد الاصوات بالانتخابات التي حصلت عام 2018 تؤكد ذلك حيث يقف شباب وشابات الجنوب اليوم ويقاومون بالفكر ما لا يمكن قمعه بالسلاح والبلطجة.